تخليدا للذكرى الحادية والثمانين لتقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال، ترأس الأخ نزار بركة الأمين العام لحزب الاستقلال، مهرجانا خطابيا وطنيا مساء يوم السبت 11 يناير 2025 بمدينة الدار البيضاء، تحت شعار "الشباب بناة اليوم والغد"، بحضور وازن للأخوات والإخوة أعضاء اللجنة التنفيذية للحزب، وثلة من برلمانيي الحزب وأطره ومفتشيه ومناضلاته ومناضليه، لإحياء ذكرى تعكس بصدق قوة التحام الشعب المغربي بالعرش العلوي المجيد، في ملحمة الكفاح الوطني من أجل الحرية والاستقلال، وإحقاق السيادة الوطنية والوحدة الترابية.
وفي ما يلي النص الكامل لكلمة الأخ نزار بركة الأمين العام لحزب الاستقلال في المهرجان الخطابي الوطني تخليدا للذكرى 81 لتقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال :
وفي ما يلي النص الكامل لكلمة الأخ نزار بركة الأمين العام لحزب الاستقلال في المهرجان الخطابي الوطني تخليدا للذكرى 81 لتقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال :
بسم الله الرحمان الرحيم
الأخ رئيس المجلس الوطني للحزب؛
الأخوات والإخوة أعضاء اللجنة التنفيذية؛
الأخوات والإخوة أعضاء المجلس الوطني؛
الأخت والإخوة أعضاء لجنة الأخلاقيات والسلوك؛
الأخوات والإخوة المفتشون الإقليميون؛
الأخوات والإخوة مسؤولي وممثلي تنظيمات الحزب ومؤسساته الموازية وروابطه المهنية؛
الحضور الكريم؛
بمشاعر مفعمة بالاعتزاز والإكبار، نلتقي اليوم في مناسبة وطنية مجيدة، مناسبة إحياء ذكرى تقديم عريضة المطالبة بالاستقلال يوم 11 يناير 1944، إحدى المحطات المُشرقة في مسار الكفاح الوطني من أجل الحرية والاستقلال، وتحقيق الوحدة والسيادة الوطنية، تحت شعار:"الشباب، بُنَاةُ اليوم والغد".
نحتفي اليوم بمرور واحدٍ وثمانينَ سَنَةً على هذا الحدث الوطني الخالد الذي أوقَد شُعلةَ الحماس الوطني وأَلْهَبَ روح التضحية والكفاح لدى الوطنيين الأحرار، الذين أبانوا عن سُمُوِّ الوعي الوطني لديهم وقوة الالتحام بالعرش في مواجهة الظلم والاستعمار، والدفاع عن المقدسات الدينية والثوابت الوطنية الجامعة.
ونُسَجِّلُ باعتزازٍ إقرارَ هذه الذكرى عيدا وطنيا من طرف المغفور له الملك الحسن الثاني طيب الله ثراه، مُنْذُ سبعةٍ وثلاثين سنة، لإبقاءِ نُبْلِ مقاصدها وغاياتها حَيَّةً راسخةً في ذاكرةِ ووجدانِ المغاربة، ومُلهِمةً لأجيال اليوم والغد.
ونَعْتَزُّ بتنظيم هذا الحدث الوطني المجيد بمدينة الدار البيضاء، قَلْعَةُ الكفاح والنضال، ومَسْقِطُ رأس رمز المقاومة المغربية الشهيد "محمد الزرقطوني" الذي خَلَّدَ صفحاتٍ مشرقةٍ من التضحية والفداء في تاريخ الكفاح الوطني.
حَدَثٌ جَسَّدَ بروحه المتجددة، ومضامينِه التحررية والديمقراطية وأبعادِه الوطنية والسياسية، وقِيَمِهِ الفكرية والخُلُقِيَّةِ العابرة للسِّنِينِ والأجيال، النُّضْجَ السياسي لدى جيل الحركة الوطنية وبُعْدِ نَظَرِهِم، في بناء مغرب مستقل يَنْعَمُ بالحرية والديمقراطية، في ظل ملكيةٍ دستورية وقيمٍ مجتمعية مؤطرة لمشروع مجتمعي متضامن ومتوازن.
وكانت ولادة وثيقة المطالبة بالاستقلال في لحظة شموخ وطني ونبوغ فكري، وفي خِضَمِّ صَحْوَةٍ وطنية خالدة، فأَفْرَزَتْ انْبِثَاقَ فكرة الأمة المغربية ذات السيادة ووحدة الشعب والتراب، في إطار دولة عصرية ديمقراطية، يَنْبَنِي تجسيدُها على تحقيق الحرية والاستقلال، وهو الهدف المنشود الذي هَنْدَسَ له رواد الحركة الوطنية، من خلال وثيقة الاستقلال.
أيتها الأخوات، أيها الإخوة؛
لقد شَكَّلَتْ وثيقة المطالبة بالاستقلال لحظةً تاريخيةً فارقةً في مسار كفاح الأمة المغربية نحو الحرية والسيادة والديمقراطية. مشروعٌ عَصِيٌّ ومُتَمَنِّعٌ في تلك المرحلة، حَمَلَتْهُ ثُلَّةٌ من الوطنيين الأَقْحَاح، كان مُعظمهم شبابًا في العِقدين الثاني والثالث من العمر، وفي مقدمتهم المغفور له السلطان محمد الخامس طيب الله ثراه.
شبابٌ بَادروا تحت مِظلة حزب الاستقلال، وبتنسيق مع جلالة المغفور له السلطان محمد الخامس رحمه الله، إلى تقديم عريضة المطالبة بالاستقلال إلى الإقامة العامة لسلطات الاحتلال الفرنسي، وسُلِّمَتْ نُسَخٌ منها إلى مُمثلي الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا بالرباط وإلى مُمثلي الاتحاد السوفياتي آنذاك، في خُطْوَةٍ جَسَّدَتْ بجُرأتها قُوَّةَ تلاحمِ العرش والشعب في المطالبة بالحرية والاستقلال واستعادة سيادة الوطن.
شباب تَمَلَّكُوا الحكمة والبصيرة وأَبَانُوا عن وعي سياسي كبير ونُضْجٍ فكري واستراتيجي رفيع، إِبَّانَ صياغة وثيقة المطالبة بالاستقلال، فلم يكتفوا بإحكام طرق وأساليب الكفاح ضد المستعمر، بل أبدعوا مشروعا مجتمعيا لمغرب ما بعد الاستقلال بأبعاده السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
تَفَطَّنُوا برؤيتهم الاستشرافية، المؤطرة، بتغليبِ منطق الجماعة وإعلاء المصلحة العامة، وروح التضحية والوفاء لتوابث الوطن ومقدساته، إلى لاَ جَدوى الاستمرار في المطالبة بالإصلاحات في ظل الاحتلال، وإلى أنه لا بديلَ عن مطلب الحرية والاستقلال في ظل دولة عصرية مستقلة وموحدة، وفي ظل نظام ملكي دستوري، ضامن للحقوق والحريات، موحد للمجتمع بتنوع مكوناته وروافده.
اهْتَدَوْا بِبُعْدِ نظرهم، إلى ضرورة المزاوجة بين العمل الوطني التحرري وبين إعمال الفكر والاجتهاد لصياغة تصور مشروع مجتمعي للمغرب المستقل ينعم بالحرية والتطور الديمقراطي ومنظومة من القيم المجتمعية المبنية على العدالة الاجتماعية والإنصاف والتضامن والتكافل والكرامة لجميع المواطنات والمواطنين.
وقد أشار الزعيم علال الفاسي إلى هذا التوجه في كتابه "منهج الاستقلالية" حين قال: ...كانت المعجزة المغربية في هذه الحركة التي انبثقت من أيدينا نحن الشباب الاستقلالي الأول، وفيها الانطلاق الذي لا يقفُ عند الكفاح مهما كانت جَبَهَاتُهُ ومهما كانت شِدَّتُهُ، وفيها التخطيط لهذا البناء الذي نراه اليوم واضحا أمامنا...".
لقد زرعت وثيقة الاستقلال الأمل لدى الشعب المغربي، وفتح شباب الحركة الوطنية برؤيتهم المتبصرة، آفاقا مستقبلية واعدة لغدٍ أفضل في المغرب المستقل قِوامه توطيد دعائم الحرية والاستقلال والديمقراطية وتكريس السيادة والوحدة الوطنية، وبناء الوطن وتنميته.
إنه مشروع سياسي ومجتمعي متكامل، تَطَلَّبَ إنجازه خَوْضَ العديد من المعارك والنضالات:
معركة الوحدة الوطنية، لقناعة قادة الحركة الوطنية بأن قوة الدولة المغربية في وحدتها الوطنية الجامعة لفئات الشعب وراء جلالة الملك ولإيمانهم بأن مستقبل المغرب في تَمَيُّزِ وخصوصية وحدته الوطنية، القائمة على وحدة العقيدة ووحدة المذهب ووحدة العرش، ووحدة التاريخ والحضارة والتراث، وهي منظومة متجانسة شكَّلَتْ حائطَ الصَّدِّ المنيع ضد مساعي المستعمر لإحداث شرخٍ في الكيان الوطني بهدف تمزيق المغرب وإضعافه، وقد استعصى عليه ذلك، لأن هذه القيم والمبادئ والمقدسات، متجذرة في وجدان الشعب المغربي، متأصلة في حياته.
وقد عمل شباب الحركة الوطنية في كفاحهم الوطني من أجل الحرية والاستقلال، على تأسيس المدارس الحرة في عدة مدن مغربية التي كان لها دورٌ بارزٌ في إذكاء الوجدان الوطني، وفي الحفاظ على الهوية والإنسية المغربية والتصدي لتضييق المستعمر على اللغة العربية كلغة للتعليم وأداة لتوصيل الثقافة الإسلامية للمغاربة.
وشَكَّلَتْ المدارس الحرة جزءا من رد فِعلٍ ثقافي واسع ضد الحكم الاستعماري في تلك الفترة، حيث كانت منبثَ الحركة الثقافية والأدبية والتعليمية ومحاربة الأمية، وبث الروح الوطنية، وتدريسها للتاريخ والجغرافيا بمضامين مغربية، للتأكيد على أهمية الهوية المغربية ولإثبات جذور المغرب التاريخية والحضارية.
وحَرِصَ زعماء الحركة الوطنية، في مواجهتهم للمشروع المجتمعي الاستعماري، على تحويل المدارس الحرة إلى مشتلٍ لإبداع الأناشيد الوطنية وتلقينِها وحفظِها ونَشْرِهَا كوسيلة لترسيخ الروح الوطنية.
وشَكَّلَتْ هذه الأناشيد أداة فعالة للنضال السياسي، اعتمدته الحركة الوطنية في مواجهة المخططات الاستعمارية، لتعبئة الجماهير واستنفار روح الوطنية والمقاومة فيها، خاصة إبَّانَ المظاهرات والاحتجاجات الشعبية التي كانت تستهدف تقسيم البلاد سواء من الناحية الدينية أو الإثنية أو الثقافية، كما حصل إبَّانَ مواجهة الظهير البربري في 16 مارس 1930.
وكانت هذه الأناشيد الوطنية، في الغالب، من تأليف زعماء الحركة الوطنية، أمثال الزعيم علال الفاسي الذي أَلَّفَ بالإضافة، إلى كُتُبِهِ التنظيرية ومقالاته السياسية، عدة أناشيد وطنية، كانت تُحْفَظُ لتُردَّدَ في المظاهرات والتجمعات السياسية، من قبيل (وطننا المغربي) و(ليحيى أبناء الوطن...) و(يا ملك المغرب….).
كما اهتدى الوطنيون، في صراعهم السياسي مع السلطات الاستعمارية إلى توظيف تلك الأناشيد في إحياء مناسبات الاحتفال بعيد العرش، لتكريس الولاء السياسي لملك البلاد "محمد بن يوسف" كرمز للوحدة السياسية للبلاد والتعبير عن التلاحم المتين بين العرش والشعب بمختلف مكوناته، والاعتزاز بالهوية المغربية ومناعة الوحدة الوطنية.
أيتها الأخوات، أيها الإخوة؛
إنه مسارٌ تراكميٌّ للنضال وتقديم التضحيات والمطالبة بالإصلاحات، ورصيد وازن من الملاحم الوطنية الخالدة، التي خَاضَهَا شباب الحركة الوطنية، بكل حِنكةٍ وتبصرٍ، بحيث أصبح الاستقلال مطلبا جماهيريا لكل المغاربة قاطبة، فكان الإسناد بالكفاح المُسلح والعمل الفدائي وتأسيس جيش التحرير، كما كان الرهان على الوسائل الدبلوماسية وحَشْدِ الدعم الدولي من أجل تحرر البلاد واستقلالها.
جهادٌ ممتدٌ ومتواصلٌ، انْبَنَى على قاعدة الثوابت والمقدسات والتشبث بمكارم ثورة الملك والشعب وما حَفِلَتْ به من مقاصد وغايات، وساهم بقوة في إرساء أسس ولَبِنَاتِ الدولة المغربية العصرية، التي تَطَلَّعَ إليها المغاربة.
أيتها الأخوات، أيها الإخوة؛
وعلى نهج هذا المسار النَّاصع في الكفاح الوطني من أجل الحرية والاستقلال، كانت الانطلاقة في تجسيد حلم الدولة العصرية، القوية بوحدتها الوطنية، وبنظامها السياسي الذي يجعل من احترام حقوق الإنسان والحريات العامة أحد أعمدته الأساسية، فكان حزب الاستقلال، الزاخر بشبابه وأطره، في طليعة المدافعين عن تطلعات الشعب المغربي نحو الحريات، وترسيخ التعددية الحزبية وحرية التنظيم الجمعوي والانتماء النقابي والسياسي، وإرساء دعائم البناء الديمقراطي وأسس دولة الحق والقانون، وذلك من خلال مبادرة حكومة أحمد بلافريج إلى سَنِّ القوانين المؤطرة لممارسة الحريات العامة بالمغرب، سواء ما تَعَلَّقَ منها بحق تأسيس الجمعيات والأحزاب السياسية أو ما تَعَلَّقَ بحرية الصحافة وحرية التظاهر والتجمع، وما أعقبها من إصدار مدونة للأحوال الشخصية، كأول قانون يُنظم العلاقة بين مختلف مكونات الأسرة، في خِضمِّ معركةٍ ضَارِيَةٍ خَاضَهَا الحزب لتحرير المرأة المغربية من التصلُّبِ الاجتماعي والتقاليد السلبية والأمية والفقر والإقصاء والتمييز. ونعتز في حزب الاستقلال أن الزعيم علال الفاسي كان في مقدمة المدافعين عن إقرار حقوق المرأة وتقوية دورها ومكانتها في المجتمع.
وعلى ذكر مدونة الأحوال الشخصية فإننا في حزب الاستقلال نسجل بارتياح أن المخرجات المتعلقة بتعديل مدونة الأسرة الجديدة تحترم التوجه الذي أعطاه جلالة الملك أيده الله أمير المؤمنين القاضي بعدم تحريم حلال وتحليل حرام.
كما ننوه بالرؤية الشرعية المتجددة التي دعا من خلال جلالة الملك حفظه الله المجلس العلمي الأعلى إلى مواصلة التفكير واعتماد الاجتهاد البناء في موضوع الأسرة لتقديم أجوبة للإشكاليات الفقهية التي تطرحها تطورات الأسرة المغربية والمجتمع.
كما نسجل بكل فخر واعتزاز التفاعل الإيجابي مع مقترحات الحزب المقدمة في هذا الشأن، وانتصار المشروع للمنطق الذي يدافع عنه حزب الاستقلال القائم على التوازن والتضامن الأسري بدل التقاطب بين الرجل والمرأة والنهوض بالأسرة المغربية وتقوية تماسكها باعتبارها الخلية الأساسية للمجتمع وضمان استقرارها وتماسكها وتحقيق المصلحة الفضلى للطفل وإنصاف المرأة.
ومن الضروري التأكيد أن هناك العديد من المغالطات والتضليل والتشويش كذلك حول مخرجات المدونة التي لن تكون نهائية إلا بعد صياغتها القانونية التي ستتم المصادقة عليها في المجلس الحكومي وفي البرلمان، والحكومة في تبنيها لهذه التعديلات ستدافع عن توابث الأمة كأساس لتعديل مدونة الأسرة، تماشيا مع التوجيهات الملكية السامية.
ولأن الحرية السياسية تُفرز التحرر الاقتصادي، كما قال الزعيم علال الفاسي، فقد تَمَّتْ الدعوة إلى تحرير الاقتصاد الوطني من التَّبَعِية الأجنبية ومَغْرَبَةِ الإدارة ومناطق الاقتصاد واسترجاع الأراضي الفلاحية إلى مِلَكِ الدولة.
وتعزيزا لهذا التوجه، أبدع حزب الاستقلال عبر زعيمه الراحل "علال الفاسي" وثيقة التعادلية الاقتصادية والاجتماعية وَقَدَّمَهَا للمغفور له "الحسن الثاني" في 11 يناير 1963، لتكون امتدادا طبيعيا لوثيقة المطالبة بالاستقلال، وتجسيدا للخيار الاقتصادي والاجتماعي الثالث، سعى من وَرَائِها الحزب إلى تحقيق العدالة الاجتماعية والإنصاف وتكافؤ الفرص والقضاء على الفوارق الاجتماعية والمجالية، وتوسيع دائرة الممارسة الديمقراطية وتشجيع المبادرة الفردية والابتكار وتقوية الاقتصاد التضامني، وتحقيق مجتمع متضامن ومتوازن.
أيتها الأخوات، أيها الإخوة؛
على هذا المنوال، وَاصَلَ بُنَاةُ التحرير مسيرة استكمال الوحدة الترابية وترسيخ الديمقراطية ودولة المؤسسات، وبناء مجتمع متماسك في كَنَفِ مَلكية دستورية ضامنة للاختيار الديمقراطي والوحدة الوطنية والإنسية المغربية، ومؤتمنة على الوحدة الترابية، وضمان الأمن الروحي في ضوء النموذج المغربي المُتفرد لتدبير الشأن الديني القائم على الوسطية والاجتهاد والاعتدال والتسامح.
شُعْلَةٌ متجددةٌ في البناء والتشييد عبر مختلف المحطات الفارقة في تاريخ بلادنا، منذ عهد المغفور له السلطان "محمد الخامس"، مرورا بعهد جلالة المغفور له "الحسن الثاني" طيب الله ثراه، إلى العهد الزاهر لجلالة الملك محمد السادس حفظه الله.
إنها شُعْلَةُ ثورة الملك والشعب التي فَعَلَتْ فِعْلَهَا، فيما تحقق ببلادنا من إنجازات تحررية ودستورية وديمقراطية وسياسية وتنموية، جعلت مغرب اليوم يعيش على وقع طَفْرَاتٍ وانتقالاتٍ وتحوُّلاتٍ مِفصلية في مساره.
شُعْلَةٌ تَدِينُ بتوهُّجها العابرِ للزمن، لعزيمة وإصرار الشباب الوطنيين الأحرار، الذين كان سلاحهم الوحيد، الإيمان بالقضية والاستعداد للتضحية من أجلها، والوعي بالمسؤولية لقيادة بلادهم نحو النَّصْرِ والعزة والكرامة.
شباب في أَوْج العطاء والحماس الوطني، اسْتَقْرَأُوا مؤشرات السياق الدولي آنذاك، واستثمروا التزامات الحُلفاء في "مؤتمر أنفا" سنةً قبل ذلك (أي في 14 يناير 1943)، من أجل الانخراط في توجه عالمي جديد، انبثقَ في نهاية الحرب العالمية الثانية، يُعطي للشعوب حق الاستقلال وتقرير مصيرها.
إنه ذكاء جماعي استراتيجي، تَقاسمَهُ جيلُ وثيقة الاستقلال، وفَاجَأَ توقعات الإدارة الاستعمارية عِنْدَئِذٍ، بحيث لم يَكْتَفِ بالكائن ولم يَسْتَكِنْ لواقع الحال، ولكنه تَطَلَّعَ إلى المُمكن، ورَفعَ من سقف الطموح الوطني إلى الحرية والاستقلال ولا شيء غيرَ ذلك.
إنه تجسيدٌ قويٌّ لما استشرفَه زعيمُنا الخالد الفقيد علال الفاسي رحمه الله، قبل ذلك بسنوات، قائلا:
" كل صعبٍ على الشباب يهون# هكذا همة الرجال (..والنساءِ) تكون".
لذلك استحقوا منه كل التقدير والثناء، حين قال: "وإنه ليحق لنا أن نذكر هؤلاء الشباب باعتزاز وإعجاب لأنهم ماكانوا ينتظرون من يوجههم، أو يُصْدِرُ إليهم التعليمات، لكي يقوموا بواجبهم.. مستعملين الوسائل القليلة الصغيرة بأيديهم، واثقين أنها ستنمو مع وعي الشعب، وستتطور إلى وسائل قوية ستنزع الاستعمار من معاقله وتقتلع غروسَه من جذورها.." (من الخطاب الهام الذي ألقاه الزعيم علال الفاسي في الجلسة الافتتاحية للمؤتمر الرابع للشبيبة الاستقلالية المنعقد بالرباط أيام 27،28،29 شتنبر 1968م).
أيتها الأخوات، أيها الإخوة؛
إذا كان شباب التحرير بالأمس يثير الإعجاب، فإن الرهان معقود على شبابنا اليوم لِلَعِبِ دوره كاملا لقيادة المرحلة باستثمار طاقاته التي يزخر بها في مواجهة التحديات وكسب رهانات الحاضر والمستقبل.
إننا مدعوُّون اليوم إلى بَعْثِ هذه الروح مجددا في شبابنا كما انْبَعَثَتْ في الجيل الشاب الذي أبدع وثيقة الاستقلال، وأن نُعبِّئَ الأسباب الموضوعية المناسبة للوقت الراهن، التي من شأنها استنهاض مَنْسُوبِ التحدي الجماعي والبَنّاء لدى الشباب لكسب رهانات الحاضر وصناعة آفاق المستقبل، بنفس العَزيمة في التغيير، وبنفس الثقة في أن الأفضلَ مُمكنٌ، وفي أن المُمْكنَ ليس مستحيلاً.
فمن معركة الاستقلال، إلى معركة بناء دولة المؤسسات والديمقراطية والحقوق، إن بلادنا في حاجة إلى سواعد شبابها، نساءً ورجالاً، من أجل خَوضِ معارك المستقبل وطموحاتنا الإرادية الكبرى لتحقيق التقدم الاجتماعي، والانتقال إلى الصعود الاقتصادي، والتموقع المُؤثر في المجتمع الدولي من خلال إرساء جيل جديد من مقومات السيادة الوطنية.
وبالتالي من مسؤوليتنا التاريخية أن نجعل الشباب يساهم اليوم بكل قوة في تحقيق التحولات الكبرى التي تعرفها بلادنا بقيادة جلالة الملك محمد السادس أيده الله:
مسار القضية الوطنية والطي النهائي للنزاع المفتعل حول الأقاليم الجنوبية للمملكة، وذلك بالمساهمة من خلال الدبلوماسية الشبابية والحزبية والبرلمانية في توسيع الاعتراف بمغربية الصحراء، وبِوَجَاهَة مقترح الحكم الذاتي تحت السيادة الوطنية، باعتباره الحل الوحيد والأوحد، وتكثيف المساعي خصوصا نحو باقي الدول الدائمة بمجلس الأمن، والاتحاد الأوروبي، والدول الأخرى في أوروبا وآسيا وأمريكا، وإفريقيا من أجل تأمين السلم في المنطقة، وتحقيق الانبثاق الاقتصادي للواجهة الأطلسية الإفريقية، وبناء الاتحاد المغاربي ليلعب دوره كاملا في تطوير القارة الإفريقية، ومنطقة الساحل، فضلا عن مواصلة تنزيل النموذج التنموي الجديد للأقاليم الجنوبية الذي أطلقه جلالة الملك محمد السادس حفظه الله، في أفق تنزيل الحكم الذاتي في أقاليمنا الصحراوية.
دينامية تحول الاقتصاد الوطني، من خلال الانخراط في المهن العالمية الجديدة مع تكريس السيادة الوطنية على الصعيد الصناعي والطاقي والرقمي والمالي والصحي، ..مما سَيَخْلُقُ الآلاف من فرص الشغل ويُطوِّر قدراتنا الإنتاجية، والتكنولوجية والتنافسية.
التشبع بالنَّفَس الهوياتي، من خلال تقوية روح الانتماء إلى الوطن، وتَمْنيع الوحدة الوطنية، ومواكبة التطور المجتمعي والكوني، مع التشبث بثوابت الأمة والقيم الدينية السمحة والقيم المغربية الإيجابية.
أيتها الأخوات، أيها الإخوة؛
هناك اليوم فرص سانحة على الصعيد الإقليمي والقاري والدولي، لايُمكن تحويلها إلى محركات للنمو ومشاريع لخلق الثروة إلا بتعبئة وانخراط الشباب.
فرص تثبيت المغرب كقوة صاعدة إقليميا وجهويا وكقطب استقرار وازدهار إقليميا وقاريا. ويشكل تنظيم كأس العالم 2030 مع إسبانيا والبرتغال محطة كبرى لإبراز قدراتنا في كل الميادين.
ولا يزال لدينا، والحمد لله، إِمكانٌ شبابي واعد ينبغي استثماره في ظل استمرار نافذة الامتياز الديمغرافي الحالي، وأن نوفِّر له عرضا شموليا مندمجا ومتكاملا، كفيلا بتحرير وتفجير طاقات الشباب في مختلف المجالات والقطاعات التي تحتاجها بلادُنا في أوراش البناء الجارية والقادمة.
صحيح..ونَقُولُها بكل صراحةٍ ومسؤولية: لدى شبابِ بلادِنا أسبابٌ موضوعية ومشروعة للشعور بالقلق تجاه المستقبل، ومخاوف من اللايقين، مما يساهم في خلق أزمة ثقة مركبة ومتعددة الأبعاد. من مؤشرات هذه الأسباب:
الارتفاع المتزايد للبطالة التي سجلت في السنوات الأخيرة مستويات عالية جدا، بحيث بَلَغَتْ حسب الإحصاء الأخير21,3%، وهي أكثر ارتفاعا بخصوص الشباب بنسبة 39,5%، والنساءبـ 29,6%؛
اندحار الطبقة الوسطى جَرَّاءَ غلاء المعيشة وتعميق الفوارق الاجتماعية رغم الجهود المبذولة من خلال التغطية الصحية والدعم الاجتماعي والرفع من الأجور وتخفيض الضريبة على الدخل، وكذا قلة وهشاشة مناصب الشغل المحدثة، وبالتالي محدوديةُ فرص الارتقاء الاجتماعي بالنسبة للشباب؛
التقدم الرقمي المتواصل والمتسارع، لا سيما مع بروز الذكاء الاصطناعي، بما يحمله من فرص جديدة للتطور والتقدم والإدماج الاقتصادي والاجتماعي للشباب، وما يحمله من حلول تُعَمِّقُ الهُوَّةَ بين شباب الدول المتقدمة وشبابنا، وتُشَكِّلُ تهديدا للعديد من المهن ومناصب الشغل الحالية والمستقبلية؛
التداعيات السلبية لفضاءات التواصل الاجتماعي من خلال انتشار المعلومات المضللة والأخبار الزائفة، والتعرض للتحرش والتنمر، والترويج للسلوكات الحياتية السلبية، ونماذج النجاحات الفردية السهلة أو غير الأخلاقية، وهو الأمر الذي يولد شعورًا بالإحباط والفشل، ويزرع الارتباك واليأس والسوداوية، ويغذي الإحساس "باللا أمان" لدى الشباب؛
تواتر الظواهر الطبيعية القصوى (من جفاف وفيضانات ونُدرة المياه) بسبب التغيرات المناخية، وآثارها السلبية على قدرات الصمود لدى الشباب، ومقومات العيش الحيوية بالنسبة للأجيال القادمة، لا سيما مع تفاقم الظواهر الوبائية والأزمات الصحية في السنوات الأخيرة، بتداعياتها البشرية والاقتصادية والاجتماعية.
انحسار الجواب السياسي والثقافي أمام هذه التحديات المعقدة، في مقابل تفشي منطق التقطابات الحادة التي تذكي التوترات والشروخ داخل المجتمع، وتخلق مناخًا من عدم اليقين والقلق، والتي تؤدي إلى فقدان الثقة في المؤسسات المنتخبة وفي الأحزاب السياسية.
ويجدر التأكيد هنا أن هذه المخاوف، وهذه الأسباب الموضوعية للقلق لن تزولَ بمُفْرَدِها، ولن تَتَبَدَّدَ إلا إذا خرج الشباب من منطقة الانتظارية إلى منطقة الفعل والمساهمة في صياغة الحلول والبدائل، وأَخَذُوا زِمام المبادرة بالقوة الاقتراحية والمشاركة في مسالك الإنجاز وفي العمل السياسي.
أخواتي، إخواني؛
إننا في حزب الاستقلال نتطلع إلى بلورة "عَقْدٍ اجتماعي مُتقدم" مع شباب بلادنا من أجل تمكينه، من جهة، من أسباب الارتقاء والازدهار الذاتي والاستقلالية والإبداع والابتكار، وتمكينِه من جهة ثانية من كفاءات وآليات المشاركة المواطنة الفاعلة في ديناميات المجتمع والحياة العامة.
إنها مبادرة طموحة نَضَعُهَا بين يدي الشباب المدعو لتَمَلُّكِهَا واحتضانها، ليُعبِّر من خلالها عن مغرب الغد وليؤسِّسَ من خلالها لمستقبل قائم على التشاركية والبناء الجماعي ولِيَجعَل منها مُنْطلقا واعدا لطموحات الشباب المغاربة في القرى والمدن وكذا شباب مغاربة العالم.
ولأن العَقْدَ الاجتماعي لفائدة الشباب ومن أجل الشباب، فإن الشباب مدعو أيضا لصياغته وبنائه، انطلاقا من الأفكار والمقترحات التي ستفرزها الاستشارات واللقاءات الشبابية المحلية والجهوية والوطنية التي سيطلقها الحزب طيلة سنة 2025، والتي ستشكل منصة لإسماع صوت الشباب والتعبير عن طموحاتهم من أجل المساهمة في بلورة رؤية المستقبل وإشراكهم في وضع السياسات العمومية، بما يضمن حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية.
على أن يَتَضَمَّنَ هذا العَقْدُ الاجتماعي مع الشباب منظومات متكاملة ومتوازنة من الحقوق والخدمات والالتزامات المتبادلة التي من شأنها أن تجعل من هذه الفئة النابضة بالحيوية والطاقة، والقادرة على العمل والإنتاج، محركا أساسيا للتغيير والتنمية.
على مستوى منظومة الحقوق والخدمات، الحرص على تمكين الشباب من خلال تكافؤ الفرص في الولوج إلى الصحة والتعليم والتكوين بالجودة المطلوبة، وإنصاف الفئات الهشة لاسيما في المناطق المعزولة والمُهَمَّشَة، وتوسيع عروض مدارس ومبادرات الفرصة الثانية، وتطوير المهارات الرقمية للجميع، وتوفير فرص الشغل اللائق، وتشجيع ودعم مشاريع ومبادرات الشباب، والإدماج عبر الثقافة والرياضة والفن، وضمان حرية الفكر والتعبير.
أما على مستوى التزامات الشباب في إطار واجبات المواطنة، فإن الشباب مدعو إلى التحلي بروح المبادرة، وقيمة العمل، وبَذْلِ المجهود، والمساهمة في خلق الثروة الوطنية بالإنتاج والابتكار، واحترام مبادئ الصالح العام، وسُمُوِّ القانون، والمنافسة الشريفة، والمساواة، وفضائل الحوار في تدبير الخلاف، والعيش المشترك والتساكن الاجتماعي.
وأخيرا، ثمَّةَ منظومةٌ ثالثة، لا تَقِلُّ أهميةً عن سابِقَاتِها، بحيث لاَ يَكْفِي أن نُوَفِّرَ للشباب أسباب التأهيل والارتقاء والترفيه، أو أن نطلب منهم في المقابل المساهمة في خلق الثروة، والتشبُّعِ بقيم المواطنة المسؤولة، والتشبث بروابط الانتماء إلى الوطن والأمة.
لا بد من أن تتضافر الإرادات، من جهتي الفاعلين والشباب معا، لتقوية المشاركة النشيطة للشباب في تدبير الشأن العام واتخاذ القرار السياسي، الوطني والترابي، إما من خلال أشكال وممارسات الديمقراطية التمثيلية، أو الديمقراطية التشاركية.
أيتها الأخوات، أيها الإخوة؛
إن إشراك الشباب في مسلسل صناعة القرار العمومي، وتنشيط الحياة العامة، لا يَتَأَتَّى إلا بتثمين أدوار الأحزاب والنقابات ومنظمات المجتمع المدني، وإعطاء دُفعة جديدة لآليات الحوار والتشاور على الصعيد الوطني والجهوي والمحلي، بما في ذلك تفعيل المجلس الاستشاري للشباب والعمل الجمعوي، وجعل الشباب شريكا حقيقيا في بلورة وتنفيذ وتقييم السياسات والبرامج العمومية، مما سَيُعزِّزُ الثقة في المؤسسات.
وإن بلادنا لَفي حاجةٍ إلى جرأة الشباب من أجل تغيير العقليات وقيادة الإصلاح في المجالات العنيدة، واستشراف الممكنات، وضَخِّ دماءٍ جديدةٍ في الذكاء المغربي من أجل اغْتِنَامِ الفرص المتاحة على المستوى الدولي والإقليمي في الأفق المنظور، وتَمْنِيعِ قدراتنا على الصمود أمام الأزمات الطارئة أو المتوقعة، اقتصاديا واجتماعيا ومناخيا.
وهو التوجه الذي أكد عليه الزعيم الراحل علال الفاسي، في النقد الذاتي، بقوله: "أن الأمر يحتاج إلى ثورة في التفكير تُغَيِّرُ من عقليتنا وتعمل على تبديل دهنيتنا، حتى نستطيع معالجة مشاكلنا وفقا لما يقتضيه هذا العصر".
وإننا لمَدْعُوُّونَ للانتقال إلى السرعة في تحرير الطاقات وبناء القدرات وإدماج وتثمين الإمكان البشري، خاصة الشباب، بما يجعله فاعلا ورافعة قوية للزخم التنموي الذي تشهده بلادنا.
ولأن في إحياء ذكرى وثيقة الاستقلال دروساً وعِبَراً تمثل مصدر إلهام في التحلي بروح التضحية والوطنية والمسؤولية ونكران الذات والتشبع بمعاني التعاون والتضامن والتطوع لخدمة الوطن، ولأن حزب الاستقلال يَثِقُ في شبابه اليوم كما وَثِقَ فيهم بالأمس، فإنه يُعلن سنة 2025 سنةَ التطوع، ويدعو شبابه في تنظيمات الحزب وفروعه ومؤسساته الموازية وروابطه المهنية وجمعياته، إلى التعبئة الحزبية والوطنية والانخراط الإيجابي في هذه المبادرة المواطنة لفائدة الوطن والمواطنين، وهذا ليس بجديد على شباب "الألوكة" الذي عوَّدَنَا على إعطاء الدروس في التضامن والتكافل والعمل التطوعي، كما حَصَلَ إبَّانَ جائحة كورونا، وزلزال الحوز، وفيضانات الجنوب وغيرها.
ولأننا مَعْنِيُّونَ بتحفيز الشباب على الفعل السياسي والمساهمة في تعزيز مشاركته في الحياة السياسية وتدبير الشأن العام وتثمين أدائهم الانتخابي والترابي والتدبيري، فقد قرَّرَت قيادة الحزب بهذه المناسبة الوطنية الخالدة الاحتفاء بجهود ثُلَّةٍ من شباب الحزب، ترشَّحوا باسم الحزب في الانتخابات الجماعية أو مجموعات الجماعات أو الجهات أو يَحْتَلُّوُنَ مناصب رئيسية في مكاتبها، وذلك بمَنحهم دِرْعَ "التميز التعادلي" تقديرا لهم على تميُّزِهم في عملهم الانتدابي ومُثَابَرتِهِم في خدمة المواطنات والمواطنين وتشجيعا لهم على بَذْلِ المزيد من الجهود في تلبية احتياجات الساكنة المحلية وكسب ثقتهم.
إن ذكرى 11 يناير الخالدة تُلزمُنا، كاستقلاليات واستقلاليين ولا سيما الشباب، بأن يَظَلَّ حزبُ الاستقلال الحزبَ الأول في وجدان وقلوب المغاربة، وبأن نَحرِصَ على نَقْل هذا الرابط الوجداني إلى الأجيال الحالية والمقبلة كما ظلَّ نابِضًا ومُتُوهِّجا طيلة العقود الثمانية الماضية.
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
الأخ رئيس المجلس الوطني للحزب؛
الأخوات والإخوة أعضاء اللجنة التنفيذية؛
الأخوات والإخوة أعضاء المجلس الوطني؛
الأخت والإخوة أعضاء لجنة الأخلاقيات والسلوك؛
الأخوات والإخوة المفتشون الإقليميون؛
الأخوات والإخوة مسؤولي وممثلي تنظيمات الحزب ومؤسساته الموازية وروابطه المهنية؛
الحضور الكريم؛
بمشاعر مفعمة بالاعتزاز والإكبار، نلتقي اليوم في مناسبة وطنية مجيدة، مناسبة إحياء ذكرى تقديم عريضة المطالبة بالاستقلال يوم 11 يناير 1944، إحدى المحطات المُشرقة في مسار الكفاح الوطني من أجل الحرية والاستقلال، وتحقيق الوحدة والسيادة الوطنية، تحت شعار:"الشباب، بُنَاةُ اليوم والغد".
نحتفي اليوم بمرور واحدٍ وثمانينَ سَنَةً على هذا الحدث الوطني الخالد الذي أوقَد شُعلةَ الحماس الوطني وأَلْهَبَ روح التضحية والكفاح لدى الوطنيين الأحرار، الذين أبانوا عن سُمُوِّ الوعي الوطني لديهم وقوة الالتحام بالعرش في مواجهة الظلم والاستعمار، والدفاع عن المقدسات الدينية والثوابت الوطنية الجامعة.
ونُسَجِّلُ باعتزازٍ إقرارَ هذه الذكرى عيدا وطنيا من طرف المغفور له الملك الحسن الثاني طيب الله ثراه، مُنْذُ سبعةٍ وثلاثين سنة، لإبقاءِ نُبْلِ مقاصدها وغاياتها حَيَّةً راسخةً في ذاكرةِ ووجدانِ المغاربة، ومُلهِمةً لأجيال اليوم والغد.
ونَعْتَزُّ بتنظيم هذا الحدث الوطني المجيد بمدينة الدار البيضاء، قَلْعَةُ الكفاح والنضال، ومَسْقِطُ رأس رمز المقاومة المغربية الشهيد "محمد الزرقطوني" الذي خَلَّدَ صفحاتٍ مشرقةٍ من التضحية والفداء في تاريخ الكفاح الوطني.
حَدَثٌ جَسَّدَ بروحه المتجددة، ومضامينِه التحررية والديمقراطية وأبعادِه الوطنية والسياسية، وقِيَمِهِ الفكرية والخُلُقِيَّةِ العابرة للسِّنِينِ والأجيال، النُّضْجَ السياسي لدى جيل الحركة الوطنية وبُعْدِ نَظَرِهِم، في بناء مغرب مستقل يَنْعَمُ بالحرية والديمقراطية، في ظل ملكيةٍ دستورية وقيمٍ مجتمعية مؤطرة لمشروع مجتمعي متضامن ومتوازن.
وكانت ولادة وثيقة المطالبة بالاستقلال في لحظة شموخ وطني ونبوغ فكري، وفي خِضَمِّ صَحْوَةٍ وطنية خالدة، فأَفْرَزَتْ انْبِثَاقَ فكرة الأمة المغربية ذات السيادة ووحدة الشعب والتراب، في إطار دولة عصرية ديمقراطية، يَنْبَنِي تجسيدُها على تحقيق الحرية والاستقلال، وهو الهدف المنشود الذي هَنْدَسَ له رواد الحركة الوطنية، من خلال وثيقة الاستقلال.
أيتها الأخوات، أيها الإخوة؛
لقد شَكَّلَتْ وثيقة المطالبة بالاستقلال لحظةً تاريخيةً فارقةً في مسار كفاح الأمة المغربية نحو الحرية والسيادة والديمقراطية. مشروعٌ عَصِيٌّ ومُتَمَنِّعٌ في تلك المرحلة، حَمَلَتْهُ ثُلَّةٌ من الوطنيين الأَقْحَاح، كان مُعظمهم شبابًا في العِقدين الثاني والثالث من العمر، وفي مقدمتهم المغفور له السلطان محمد الخامس طيب الله ثراه.
شبابٌ بَادروا تحت مِظلة حزب الاستقلال، وبتنسيق مع جلالة المغفور له السلطان محمد الخامس رحمه الله، إلى تقديم عريضة المطالبة بالاستقلال إلى الإقامة العامة لسلطات الاحتلال الفرنسي، وسُلِّمَتْ نُسَخٌ منها إلى مُمثلي الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا بالرباط وإلى مُمثلي الاتحاد السوفياتي آنذاك، في خُطْوَةٍ جَسَّدَتْ بجُرأتها قُوَّةَ تلاحمِ العرش والشعب في المطالبة بالحرية والاستقلال واستعادة سيادة الوطن.
شباب تَمَلَّكُوا الحكمة والبصيرة وأَبَانُوا عن وعي سياسي كبير ونُضْجٍ فكري واستراتيجي رفيع، إِبَّانَ صياغة وثيقة المطالبة بالاستقلال، فلم يكتفوا بإحكام طرق وأساليب الكفاح ضد المستعمر، بل أبدعوا مشروعا مجتمعيا لمغرب ما بعد الاستقلال بأبعاده السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
تَفَطَّنُوا برؤيتهم الاستشرافية، المؤطرة، بتغليبِ منطق الجماعة وإعلاء المصلحة العامة، وروح التضحية والوفاء لتوابث الوطن ومقدساته، إلى لاَ جَدوى الاستمرار في المطالبة بالإصلاحات في ظل الاحتلال، وإلى أنه لا بديلَ عن مطلب الحرية والاستقلال في ظل دولة عصرية مستقلة وموحدة، وفي ظل نظام ملكي دستوري، ضامن للحقوق والحريات، موحد للمجتمع بتنوع مكوناته وروافده.
اهْتَدَوْا بِبُعْدِ نظرهم، إلى ضرورة المزاوجة بين العمل الوطني التحرري وبين إعمال الفكر والاجتهاد لصياغة تصور مشروع مجتمعي للمغرب المستقل ينعم بالحرية والتطور الديمقراطي ومنظومة من القيم المجتمعية المبنية على العدالة الاجتماعية والإنصاف والتضامن والتكافل والكرامة لجميع المواطنات والمواطنين.
وقد أشار الزعيم علال الفاسي إلى هذا التوجه في كتابه "منهج الاستقلالية" حين قال: ...كانت المعجزة المغربية في هذه الحركة التي انبثقت من أيدينا نحن الشباب الاستقلالي الأول، وفيها الانطلاق الذي لا يقفُ عند الكفاح مهما كانت جَبَهَاتُهُ ومهما كانت شِدَّتُهُ، وفيها التخطيط لهذا البناء الذي نراه اليوم واضحا أمامنا...".
لقد زرعت وثيقة الاستقلال الأمل لدى الشعب المغربي، وفتح شباب الحركة الوطنية برؤيتهم المتبصرة، آفاقا مستقبلية واعدة لغدٍ أفضل في المغرب المستقل قِوامه توطيد دعائم الحرية والاستقلال والديمقراطية وتكريس السيادة والوحدة الوطنية، وبناء الوطن وتنميته.
إنه مشروع سياسي ومجتمعي متكامل، تَطَلَّبَ إنجازه خَوْضَ العديد من المعارك والنضالات:
معركة الوحدة الوطنية، لقناعة قادة الحركة الوطنية بأن قوة الدولة المغربية في وحدتها الوطنية الجامعة لفئات الشعب وراء جلالة الملك ولإيمانهم بأن مستقبل المغرب في تَمَيُّزِ وخصوصية وحدته الوطنية، القائمة على وحدة العقيدة ووحدة المذهب ووحدة العرش، ووحدة التاريخ والحضارة والتراث، وهي منظومة متجانسة شكَّلَتْ حائطَ الصَّدِّ المنيع ضد مساعي المستعمر لإحداث شرخٍ في الكيان الوطني بهدف تمزيق المغرب وإضعافه، وقد استعصى عليه ذلك، لأن هذه القيم والمبادئ والمقدسات، متجذرة في وجدان الشعب المغربي، متأصلة في حياته.
وقد عمل شباب الحركة الوطنية في كفاحهم الوطني من أجل الحرية والاستقلال، على تأسيس المدارس الحرة في عدة مدن مغربية التي كان لها دورٌ بارزٌ في إذكاء الوجدان الوطني، وفي الحفاظ على الهوية والإنسية المغربية والتصدي لتضييق المستعمر على اللغة العربية كلغة للتعليم وأداة لتوصيل الثقافة الإسلامية للمغاربة.
وشَكَّلَتْ المدارس الحرة جزءا من رد فِعلٍ ثقافي واسع ضد الحكم الاستعماري في تلك الفترة، حيث كانت منبثَ الحركة الثقافية والأدبية والتعليمية ومحاربة الأمية، وبث الروح الوطنية، وتدريسها للتاريخ والجغرافيا بمضامين مغربية، للتأكيد على أهمية الهوية المغربية ولإثبات جذور المغرب التاريخية والحضارية.
وحَرِصَ زعماء الحركة الوطنية، في مواجهتهم للمشروع المجتمعي الاستعماري، على تحويل المدارس الحرة إلى مشتلٍ لإبداع الأناشيد الوطنية وتلقينِها وحفظِها ونَشْرِهَا كوسيلة لترسيخ الروح الوطنية.
وشَكَّلَتْ هذه الأناشيد أداة فعالة للنضال السياسي، اعتمدته الحركة الوطنية في مواجهة المخططات الاستعمارية، لتعبئة الجماهير واستنفار روح الوطنية والمقاومة فيها، خاصة إبَّانَ المظاهرات والاحتجاجات الشعبية التي كانت تستهدف تقسيم البلاد سواء من الناحية الدينية أو الإثنية أو الثقافية، كما حصل إبَّانَ مواجهة الظهير البربري في 16 مارس 1930.
وكانت هذه الأناشيد الوطنية، في الغالب، من تأليف زعماء الحركة الوطنية، أمثال الزعيم علال الفاسي الذي أَلَّفَ بالإضافة، إلى كُتُبِهِ التنظيرية ومقالاته السياسية، عدة أناشيد وطنية، كانت تُحْفَظُ لتُردَّدَ في المظاهرات والتجمعات السياسية، من قبيل (وطننا المغربي) و(ليحيى أبناء الوطن...) و(يا ملك المغرب….).
كما اهتدى الوطنيون، في صراعهم السياسي مع السلطات الاستعمارية إلى توظيف تلك الأناشيد في إحياء مناسبات الاحتفال بعيد العرش، لتكريس الولاء السياسي لملك البلاد "محمد بن يوسف" كرمز للوحدة السياسية للبلاد والتعبير عن التلاحم المتين بين العرش والشعب بمختلف مكوناته، والاعتزاز بالهوية المغربية ومناعة الوحدة الوطنية.
أيتها الأخوات، أيها الإخوة؛
إنه مسارٌ تراكميٌّ للنضال وتقديم التضحيات والمطالبة بالإصلاحات، ورصيد وازن من الملاحم الوطنية الخالدة، التي خَاضَهَا شباب الحركة الوطنية، بكل حِنكةٍ وتبصرٍ، بحيث أصبح الاستقلال مطلبا جماهيريا لكل المغاربة قاطبة، فكان الإسناد بالكفاح المُسلح والعمل الفدائي وتأسيس جيش التحرير، كما كان الرهان على الوسائل الدبلوماسية وحَشْدِ الدعم الدولي من أجل تحرر البلاد واستقلالها.
جهادٌ ممتدٌ ومتواصلٌ، انْبَنَى على قاعدة الثوابت والمقدسات والتشبث بمكارم ثورة الملك والشعب وما حَفِلَتْ به من مقاصد وغايات، وساهم بقوة في إرساء أسس ولَبِنَاتِ الدولة المغربية العصرية، التي تَطَلَّعَ إليها المغاربة.
أيتها الأخوات، أيها الإخوة؛
وعلى نهج هذا المسار النَّاصع في الكفاح الوطني من أجل الحرية والاستقلال، كانت الانطلاقة في تجسيد حلم الدولة العصرية، القوية بوحدتها الوطنية، وبنظامها السياسي الذي يجعل من احترام حقوق الإنسان والحريات العامة أحد أعمدته الأساسية، فكان حزب الاستقلال، الزاخر بشبابه وأطره، في طليعة المدافعين عن تطلعات الشعب المغربي نحو الحريات، وترسيخ التعددية الحزبية وحرية التنظيم الجمعوي والانتماء النقابي والسياسي، وإرساء دعائم البناء الديمقراطي وأسس دولة الحق والقانون، وذلك من خلال مبادرة حكومة أحمد بلافريج إلى سَنِّ القوانين المؤطرة لممارسة الحريات العامة بالمغرب، سواء ما تَعَلَّقَ منها بحق تأسيس الجمعيات والأحزاب السياسية أو ما تَعَلَّقَ بحرية الصحافة وحرية التظاهر والتجمع، وما أعقبها من إصدار مدونة للأحوال الشخصية، كأول قانون يُنظم العلاقة بين مختلف مكونات الأسرة، في خِضمِّ معركةٍ ضَارِيَةٍ خَاضَهَا الحزب لتحرير المرأة المغربية من التصلُّبِ الاجتماعي والتقاليد السلبية والأمية والفقر والإقصاء والتمييز. ونعتز في حزب الاستقلال أن الزعيم علال الفاسي كان في مقدمة المدافعين عن إقرار حقوق المرأة وتقوية دورها ومكانتها في المجتمع.
وعلى ذكر مدونة الأحوال الشخصية فإننا في حزب الاستقلال نسجل بارتياح أن المخرجات المتعلقة بتعديل مدونة الأسرة الجديدة تحترم التوجه الذي أعطاه جلالة الملك أيده الله أمير المؤمنين القاضي بعدم تحريم حلال وتحليل حرام.
كما ننوه بالرؤية الشرعية المتجددة التي دعا من خلال جلالة الملك حفظه الله المجلس العلمي الأعلى إلى مواصلة التفكير واعتماد الاجتهاد البناء في موضوع الأسرة لتقديم أجوبة للإشكاليات الفقهية التي تطرحها تطورات الأسرة المغربية والمجتمع.
كما نسجل بكل فخر واعتزاز التفاعل الإيجابي مع مقترحات الحزب المقدمة في هذا الشأن، وانتصار المشروع للمنطق الذي يدافع عنه حزب الاستقلال القائم على التوازن والتضامن الأسري بدل التقاطب بين الرجل والمرأة والنهوض بالأسرة المغربية وتقوية تماسكها باعتبارها الخلية الأساسية للمجتمع وضمان استقرارها وتماسكها وتحقيق المصلحة الفضلى للطفل وإنصاف المرأة.
ومن الضروري التأكيد أن هناك العديد من المغالطات والتضليل والتشويش كذلك حول مخرجات المدونة التي لن تكون نهائية إلا بعد صياغتها القانونية التي ستتم المصادقة عليها في المجلس الحكومي وفي البرلمان، والحكومة في تبنيها لهذه التعديلات ستدافع عن توابث الأمة كأساس لتعديل مدونة الأسرة، تماشيا مع التوجيهات الملكية السامية.
ولأن الحرية السياسية تُفرز التحرر الاقتصادي، كما قال الزعيم علال الفاسي، فقد تَمَّتْ الدعوة إلى تحرير الاقتصاد الوطني من التَّبَعِية الأجنبية ومَغْرَبَةِ الإدارة ومناطق الاقتصاد واسترجاع الأراضي الفلاحية إلى مِلَكِ الدولة.
وتعزيزا لهذا التوجه، أبدع حزب الاستقلال عبر زعيمه الراحل "علال الفاسي" وثيقة التعادلية الاقتصادية والاجتماعية وَقَدَّمَهَا للمغفور له "الحسن الثاني" في 11 يناير 1963، لتكون امتدادا طبيعيا لوثيقة المطالبة بالاستقلال، وتجسيدا للخيار الاقتصادي والاجتماعي الثالث، سعى من وَرَائِها الحزب إلى تحقيق العدالة الاجتماعية والإنصاف وتكافؤ الفرص والقضاء على الفوارق الاجتماعية والمجالية، وتوسيع دائرة الممارسة الديمقراطية وتشجيع المبادرة الفردية والابتكار وتقوية الاقتصاد التضامني، وتحقيق مجتمع متضامن ومتوازن.
أيتها الأخوات، أيها الإخوة؛
على هذا المنوال، وَاصَلَ بُنَاةُ التحرير مسيرة استكمال الوحدة الترابية وترسيخ الديمقراطية ودولة المؤسسات، وبناء مجتمع متماسك في كَنَفِ مَلكية دستورية ضامنة للاختيار الديمقراطي والوحدة الوطنية والإنسية المغربية، ومؤتمنة على الوحدة الترابية، وضمان الأمن الروحي في ضوء النموذج المغربي المُتفرد لتدبير الشأن الديني القائم على الوسطية والاجتهاد والاعتدال والتسامح.
شُعْلَةٌ متجددةٌ في البناء والتشييد عبر مختلف المحطات الفارقة في تاريخ بلادنا، منذ عهد المغفور له السلطان "محمد الخامس"، مرورا بعهد جلالة المغفور له "الحسن الثاني" طيب الله ثراه، إلى العهد الزاهر لجلالة الملك محمد السادس حفظه الله.
إنها شُعْلَةُ ثورة الملك والشعب التي فَعَلَتْ فِعْلَهَا، فيما تحقق ببلادنا من إنجازات تحررية ودستورية وديمقراطية وسياسية وتنموية، جعلت مغرب اليوم يعيش على وقع طَفْرَاتٍ وانتقالاتٍ وتحوُّلاتٍ مِفصلية في مساره.
شُعْلَةٌ تَدِينُ بتوهُّجها العابرِ للزمن، لعزيمة وإصرار الشباب الوطنيين الأحرار، الذين كان سلاحهم الوحيد، الإيمان بالقضية والاستعداد للتضحية من أجلها، والوعي بالمسؤولية لقيادة بلادهم نحو النَّصْرِ والعزة والكرامة.
شباب في أَوْج العطاء والحماس الوطني، اسْتَقْرَأُوا مؤشرات السياق الدولي آنذاك، واستثمروا التزامات الحُلفاء في "مؤتمر أنفا" سنةً قبل ذلك (أي في 14 يناير 1943)، من أجل الانخراط في توجه عالمي جديد، انبثقَ في نهاية الحرب العالمية الثانية، يُعطي للشعوب حق الاستقلال وتقرير مصيرها.
إنه ذكاء جماعي استراتيجي، تَقاسمَهُ جيلُ وثيقة الاستقلال، وفَاجَأَ توقعات الإدارة الاستعمارية عِنْدَئِذٍ، بحيث لم يَكْتَفِ بالكائن ولم يَسْتَكِنْ لواقع الحال، ولكنه تَطَلَّعَ إلى المُمكن، ورَفعَ من سقف الطموح الوطني إلى الحرية والاستقلال ولا شيء غيرَ ذلك.
إنه تجسيدٌ قويٌّ لما استشرفَه زعيمُنا الخالد الفقيد علال الفاسي رحمه الله، قبل ذلك بسنوات، قائلا:
" كل صعبٍ على الشباب يهون# هكذا همة الرجال (..والنساءِ) تكون".
لذلك استحقوا منه كل التقدير والثناء، حين قال: "وإنه ليحق لنا أن نذكر هؤلاء الشباب باعتزاز وإعجاب لأنهم ماكانوا ينتظرون من يوجههم، أو يُصْدِرُ إليهم التعليمات، لكي يقوموا بواجبهم.. مستعملين الوسائل القليلة الصغيرة بأيديهم، واثقين أنها ستنمو مع وعي الشعب، وستتطور إلى وسائل قوية ستنزع الاستعمار من معاقله وتقتلع غروسَه من جذورها.." (من الخطاب الهام الذي ألقاه الزعيم علال الفاسي في الجلسة الافتتاحية للمؤتمر الرابع للشبيبة الاستقلالية المنعقد بالرباط أيام 27،28،29 شتنبر 1968م).
أيتها الأخوات، أيها الإخوة؛
إذا كان شباب التحرير بالأمس يثير الإعجاب، فإن الرهان معقود على شبابنا اليوم لِلَعِبِ دوره كاملا لقيادة المرحلة باستثمار طاقاته التي يزخر بها في مواجهة التحديات وكسب رهانات الحاضر والمستقبل.
إننا مدعوُّون اليوم إلى بَعْثِ هذه الروح مجددا في شبابنا كما انْبَعَثَتْ في الجيل الشاب الذي أبدع وثيقة الاستقلال، وأن نُعبِّئَ الأسباب الموضوعية المناسبة للوقت الراهن، التي من شأنها استنهاض مَنْسُوبِ التحدي الجماعي والبَنّاء لدى الشباب لكسب رهانات الحاضر وصناعة آفاق المستقبل، بنفس العَزيمة في التغيير، وبنفس الثقة في أن الأفضلَ مُمكنٌ، وفي أن المُمْكنَ ليس مستحيلاً.
فمن معركة الاستقلال، إلى معركة بناء دولة المؤسسات والديمقراطية والحقوق، إن بلادنا في حاجة إلى سواعد شبابها، نساءً ورجالاً، من أجل خَوضِ معارك المستقبل وطموحاتنا الإرادية الكبرى لتحقيق التقدم الاجتماعي، والانتقال إلى الصعود الاقتصادي، والتموقع المُؤثر في المجتمع الدولي من خلال إرساء جيل جديد من مقومات السيادة الوطنية.
وبالتالي من مسؤوليتنا التاريخية أن نجعل الشباب يساهم اليوم بكل قوة في تحقيق التحولات الكبرى التي تعرفها بلادنا بقيادة جلالة الملك محمد السادس أيده الله:
مسار القضية الوطنية والطي النهائي للنزاع المفتعل حول الأقاليم الجنوبية للمملكة، وذلك بالمساهمة من خلال الدبلوماسية الشبابية والحزبية والبرلمانية في توسيع الاعتراف بمغربية الصحراء، وبِوَجَاهَة مقترح الحكم الذاتي تحت السيادة الوطنية، باعتباره الحل الوحيد والأوحد، وتكثيف المساعي خصوصا نحو باقي الدول الدائمة بمجلس الأمن، والاتحاد الأوروبي، والدول الأخرى في أوروبا وآسيا وأمريكا، وإفريقيا من أجل تأمين السلم في المنطقة، وتحقيق الانبثاق الاقتصادي للواجهة الأطلسية الإفريقية، وبناء الاتحاد المغاربي ليلعب دوره كاملا في تطوير القارة الإفريقية، ومنطقة الساحل، فضلا عن مواصلة تنزيل النموذج التنموي الجديد للأقاليم الجنوبية الذي أطلقه جلالة الملك محمد السادس حفظه الله، في أفق تنزيل الحكم الذاتي في أقاليمنا الصحراوية.
دينامية تحول الاقتصاد الوطني، من خلال الانخراط في المهن العالمية الجديدة مع تكريس السيادة الوطنية على الصعيد الصناعي والطاقي والرقمي والمالي والصحي، ..مما سَيَخْلُقُ الآلاف من فرص الشغل ويُطوِّر قدراتنا الإنتاجية، والتكنولوجية والتنافسية.
التشبع بالنَّفَس الهوياتي، من خلال تقوية روح الانتماء إلى الوطن، وتَمْنيع الوحدة الوطنية، ومواكبة التطور المجتمعي والكوني، مع التشبث بثوابت الأمة والقيم الدينية السمحة والقيم المغربية الإيجابية.
أيتها الأخوات، أيها الإخوة؛
هناك اليوم فرص سانحة على الصعيد الإقليمي والقاري والدولي، لايُمكن تحويلها إلى محركات للنمو ومشاريع لخلق الثروة إلا بتعبئة وانخراط الشباب.
فرص تثبيت المغرب كقوة صاعدة إقليميا وجهويا وكقطب استقرار وازدهار إقليميا وقاريا. ويشكل تنظيم كأس العالم 2030 مع إسبانيا والبرتغال محطة كبرى لإبراز قدراتنا في كل الميادين.
ولا يزال لدينا، والحمد لله، إِمكانٌ شبابي واعد ينبغي استثماره في ظل استمرار نافذة الامتياز الديمغرافي الحالي، وأن نوفِّر له عرضا شموليا مندمجا ومتكاملا، كفيلا بتحرير وتفجير طاقات الشباب في مختلف المجالات والقطاعات التي تحتاجها بلادُنا في أوراش البناء الجارية والقادمة.
صحيح..ونَقُولُها بكل صراحةٍ ومسؤولية: لدى شبابِ بلادِنا أسبابٌ موضوعية ومشروعة للشعور بالقلق تجاه المستقبل، ومخاوف من اللايقين، مما يساهم في خلق أزمة ثقة مركبة ومتعددة الأبعاد. من مؤشرات هذه الأسباب:
الارتفاع المتزايد للبطالة التي سجلت في السنوات الأخيرة مستويات عالية جدا، بحيث بَلَغَتْ حسب الإحصاء الأخير21,3%، وهي أكثر ارتفاعا بخصوص الشباب بنسبة 39,5%، والنساءبـ 29,6%؛
اندحار الطبقة الوسطى جَرَّاءَ غلاء المعيشة وتعميق الفوارق الاجتماعية رغم الجهود المبذولة من خلال التغطية الصحية والدعم الاجتماعي والرفع من الأجور وتخفيض الضريبة على الدخل، وكذا قلة وهشاشة مناصب الشغل المحدثة، وبالتالي محدوديةُ فرص الارتقاء الاجتماعي بالنسبة للشباب؛
التقدم الرقمي المتواصل والمتسارع، لا سيما مع بروز الذكاء الاصطناعي، بما يحمله من فرص جديدة للتطور والتقدم والإدماج الاقتصادي والاجتماعي للشباب، وما يحمله من حلول تُعَمِّقُ الهُوَّةَ بين شباب الدول المتقدمة وشبابنا، وتُشَكِّلُ تهديدا للعديد من المهن ومناصب الشغل الحالية والمستقبلية؛
التداعيات السلبية لفضاءات التواصل الاجتماعي من خلال انتشار المعلومات المضللة والأخبار الزائفة، والتعرض للتحرش والتنمر، والترويج للسلوكات الحياتية السلبية، ونماذج النجاحات الفردية السهلة أو غير الأخلاقية، وهو الأمر الذي يولد شعورًا بالإحباط والفشل، ويزرع الارتباك واليأس والسوداوية، ويغذي الإحساس "باللا أمان" لدى الشباب؛
تواتر الظواهر الطبيعية القصوى (من جفاف وفيضانات ونُدرة المياه) بسبب التغيرات المناخية، وآثارها السلبية على قدرات الصمود لدى الشباب، ومقومات العيش الحيوية بالنسبة للأجيال القادمة، لا سيما مع تفاقم الظواهر الوبائية والأزمات الصحية في السنوات الأخيرة، بتداعياتها البشرية والاقتصادية والاجتماعية.
انحسار الجواب السياسي والثقافي أمام هذه التحديات المعقدة، في مقابل تفشي منطق التقطابات الحادة التي تذكي التوترات والشروخ داخل المجتمع، وتخلق مناخًا من عدم اليقين والقلق، والتي تؤدي إلى فقدان الثقة في المؤسسات المنتخبة وفي الأحزاب السياسية.
ويجدر التأكيد هنا أن هذه المخاوف، وهذه الأسباب الموضوعية للقلق لن تزولَ بمُفْرَدِها، ولن تَتَبَدَّدَ إلا إذا خرج الشباب من منطقة الانتظارية إلى منطقة الفعل والمساهمة في صياغة الحلول والبدائل، وأَخَذُوا زِمام المبادرة بالقوة الاقتراحية والمشاركة في مسالك الإنجاز وفي العمل السياسي.
أخواتي، إخواني؛
إننا في حزب الاستقلال نتطلع إلى بلورة "عَقْدٍ اجتماعي مُتقدم" مع شباب بلادنا من أجل تمكينه، من جهة، من أسباب الارتقاء والازدهار الذاتي والاستقلالية والإبداع والابتكار، وتمكينِه من جهة ثانية من كفاءات وآليات المشاركة المواطنة الفاعلة في ديناميات المجتمع والحياة العامة.
إنها مبادرة طموحة نَضَعُهَا بين يدي الشباب المدعو لتَمَلُّكِهَا واحتضانها، ليُعبِّر من خلالها عن مغرب الغد وليؤسِّسَ من خلالها لمستقبل قائم على التشاركية والبناء الجماعي ولِيَجعَل منها مُنْطلقا واعدا لطموحات الشباب المغاربة في القرى والمدن وكذا شباب مغاربة العالم.
ولأن العَقْدَ الاجتماعي لفائدة الشباب ومن أجل الشباب، فإن الشباب مدعو أيضا لصياغته وبنائه، انطلاقا من الأفكار والمقترحات التي ستفرزها الاستشارات واللقاءات الشبابية المحلية والجهوية والوطنية التي سيطلقها الحزب طيلة سنة 2025، والتي ستشكل منصة لإسماع صوت الشباب والتعبير عن طموحاتهم من أجل المساهمة في بلورة رؤية المستقبل وإشراكهم في وضع السياسات العمومية، بما يضمن حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية.
على أن يَتَضَمَّنَ هذا العَقْدُ الاجتماعي مع الشباب منظومات متكاملة ومتوازنة من الحقوق والخدمات والالتزامات المتبادلة التي من شأنها أن تجعل من هذه الفئة النابضة بالحيوية والطاقة، والقادرة على العمل والإنتاج، محركا أساسيا للتغيير والتنمية.
على مستوى منظومة الحقوق والخدمات، الحرص على تمكين الشباب من خلال تكافؤ الفرص في الولوج إلى الصحة والتعليم والتكوين بالجودة المطلوبة، وإنصاف الفئات الهشة لاسيما في المناطق المعزولة والمُهَمَّشَة، وتوسيع عروض مدارس ومبادرات الفرصة الثانية، وتطوير المهارات الرقمية للجميع، وتوفير فرص الشغل اللائق، وتشجيع ودعم مشاريع ومبادرات الشباب، والإدماج عبر الثقافة والرياضة والفن، وضمان حرية الفكر والتعبير.
أما على مستوى التزامات الشباب في إطار واجبات المواطنة، فإن الشباب مدعو إلى التحلي بروح المبادرة، وقيمة العمل، وبَذْلِ المجهود، والمساهمة في خلق الثروة الوطنية بالإنتاج والابتكار، واحترام مبادئ الصالح العام، وسُمُوِّ القانون، والمنافسة الشريفة، والمساواة، وفضائل الحوار في تدبير الخلاف، والعيش المشترك والتساكن الاجتماعي.
وأخيرا، ثمَّةَ منظومةٌ ثالثة، لا تَقِلُّ أهميةً عن سابِقَاتِها، بحيث لاَ يَكْفِي أن نُوَفِّرَ للشباب أسباب التأهيل والارتقاء والترفيه، أو أن نطلب منهم في المقابل المساهمة في خلق الثروة، والتشبُّعِ بقيم المواطنة المسؤولة، والتشبث بروابط الانتماء إلى الوطن والأمة.
لا بد من أن تتضافر الإرادات، من جهتي الفاعلين والشباب معا، لتقوية المشاركة النشيطة للشباب في تدبير الشأن العام واتخاذ القرار السياسي، الوطني والترابي، إما من خلال أشكال وممارسات الديمقراطية التمثيلية، أو الديمقراطية التشاركية.
أيتها الأخوات، أيها الإخوة؛
إن إشراك الشباب في مسلسل صناعة القرار العمومي، وتنشيط الحياة العامة، لا يَتَأَتَّى إلا بتثمين أدوار الأحزاب والنقابات ومنظمات المجتمع المدني، وإعطاء دُفعة جديدة لآليات الحوار والتشاور على الصعيد الوطني والجهوي والمحلي، بما في ذلك تفعيل المجلس الاستشاري للشباب والعمل الجمعوي، وجعل الشباب شريكا حقيقيا في بلورة وتنفيذ وتقييم السياسات والبرامج العمومية، مما سَيُعزِّزُ الثقة في المؤسسات.
وإن بلادنا لَفي حاجةٍ إلى جرأة الشباب من أجل تغيير العقليات وقيادة الإصلاح في المجالات العنيدة، واستشراف الممكنات، وضَخِّ دماءٍ جديدةٍ في الذكاء المغربي من أجل اغْتِنَامِ الفرص المتاحة على المستوى الدولي والإقليمي في الأفق المنظور، وتَمْنِيعِ قدراتنا على الصمود أمام الأزمات الطارئة أو المتوقعة، اقتصاديا واجتماعيا ومناخيا.
وهو التوجه الذي أكد عليه الزعيم الراحل علال الفاسي، في النقد الذاتي، بقوله: "أن الأمر يحتاج إلى ثورة في التفكير تُغَيِّرُ من عقليتنا وتعمل على تبديل دهنيتنا، حتى نستطيع معالجة مشاكلنا وفقا لما يقتضيه هذا العصر".
وإننا لمَدْعُوُّونَ للانتقال إلى السرعة في تحرير الطاقات وبناء القدرات وإدماج وتثمين الإمكان البشري، خاصة الشباب، بما يجعله فاعلا ورافعة قوية للزخم التنموي الذي تشهده بلادنا.
ولأن في إحياء ذكرى وثيقة الاستقلال دروساً وعِبَراً تمثل مصدر إلهام في التحلي بروح التضحية والوطنية والمسؤولية ونكران الذات والتشبع بمعاني التعاون والتضامن والتطوع لخدمة الوطن، ولأن حزب الاستقلال يَثِقُ في شبابه اليوم كما وَثِقَ فيهم بالأمس، فإنه يُعلن سنة 2025 سنةَ التطوع، ويدعو شبابه في تنظيمات الحزب وفروعه ومؤسساته الموازية وروابطه المهنية وجمعياته، إلى التعبئة الحزبية والوطنية والانخراط الإيجابي في هذه المبادرة المواطنة لفائدة الوطن والمواطنين، وهذا ليس بجديد على شباب "الألوكة" الذي عوَّدَنَا على إعطاء الدروس في التضامن والتكافل والعمل التطوعي، كما حَصَلَ إبَّانَ جائحة كورونا، وزلزال الحوز، وفيضانات الجنوب وغيرها.
ولأننا مَعْنِيُّونَ بتحفيز الشباب على الفعل السياسي والمساهمة في تعزيز مشاركته في الحياة السياسية وتدبير الشأن العام وتثمين أدائهم الانتخابي والترابي والتدبيري، فقد قرَّرَت قيادة الحزب بهذه المناسبة الوطنية الخالدة الاحتفاء بجهود ثُلَّةٍ من شباب الحزب، ترشَّحوا باسم الحزب في الانتخابات الجماعية أو مجموعات الجماعات أو الجهات أو يَحْتَلُّوُنَ مناصب رئيسية في مكاتبها، وذلك بمَنحهم دِرْعَ "التميز التعادلي" تقديرا لهم على تميُّزِهم في عملهم الانتدابي ومُثَابَرتِهِم في خدمة المواطنات والمواطنين وتشجيعا لهم على بَذْلِ المزيد من الجهود في تلبية احتياجات الساكنة المحلية وكسب ثقتهم.
إن ذكرى 11 يناير الخالدة تُلزمُنا، كاستقلاليات واستقلاليين ولا سيما الشباب، بأن يَظَلَّ حزبُ الاستقلال الحزبَ الأول في وجدان وقلوب المغاربة، وبأن نَحرِصَ على نَقْل هذا الرابط الوجداني إلى الأجيال الحالية والمقبلة كما ظلَّ نابِضًا ومُتُوهِّجا طيلة العقود الثمانية الماضية.
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته